الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم إنه لم يقل بالجنة، بل بأن لهم الجنة مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم. وكأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم، المختصة بهم.وفي الكشاف والعناية ولا ترى ترغيبًا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة، وثمنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط، بل إذا كانوا قاتلين أيضًا لإعلاء كلمته، ونصر دينه، وجعله مسجلًا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك.وجعل وعده حقًا، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم، وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة، بالبيع والشراء، وأتى بقوله: {يقاتلون} الخ، بيانًا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم أمضاه بقوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام، لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازًا عن الإستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع، لأن قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل.ومنهم من جوز أن يكون معنى: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} بصرفها في العمل الصالح، و: {أَمْوَالَهُمْ} بالبذل فيها. وجعل قوله: {يُقَاتِلُونَ} مستأنفًا لذكر بعض ما شمله الكلام، اهتمامًا به. انتهى.وقوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلًا، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها، تأكيدًا له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار.وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين، على تحريفهما، ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقلها عنهما من ردّ على الكتابيّين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}التفسير: ليس الإيمان مجرد نطق باللسان، وتصديق بالقلب، وإنما هو- مع هذا- عمل بالجوارح، وابتلاء في الأموال والأنفس.. فمن صدّق قلبه ما نطق به، ومن صدق عمله ما صدّق به قلبه، فذلك هو المؤمن، الذي يقبله اللّه في المؤمنين..وبين اللّه والمؤمنين باللّه، عقد عقده معهم، وعهد عاهدهم عليه.. وهو أنه سبحانه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ولهم عنده في مقابل ذلك الجنة! وما تلك الأنفس، وهذه الأموال التي اشتراها اللّه من المؤمنين؟ إنها من اللّه، وإلى اللّه..!ولكن شاء فضل اللّه أن يجعل لعباده ملكية هذه الأنفس، وتلك الأموال، وأن يشتريها منهم، وأن يعوضهم عليها! وقدّمت الأنفس على الأموال هنا على خلاف المواضع كلها التي جاء فيها ذكر الأموال والأنفس مجتمعين في القرآن.. ففى جميع المواضع ما عدا هذا الموضع قدمت الأموال على الأنفس! فما سرّ هذا؟ أو قل ما أسرار هذا؟ونقول- واللّه أعلم- إن بعض السر في هذا هو أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يطلب الأنفس والأموال في هذا المقام، على حين أنه في جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال في القرآن الكريم- كانت مبذولة من المسلمين، أو مطلوبا منهم بذلها..! ولاختلاف المقام اختلف النظم.. ففى شراء اللّه سبحانه وتعالى ما يشترى من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند اللّه أكرم وأعز من المال، على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس، إذ يتقاتلون من أجله، مخاطرين بأنفسهم ويقتلون أنفسهم في سبيله! وفى اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم، إذ استرخصوها إلى جانب المال، على حين أنها شيء كريم عزيز عند اللّه.وفى قوله تعالى: {يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يكون له يد ظاهرة على عدوه، وبلاء مؤثّر فيه، وأنه قبل أن يقتل لابد أن يقتل من عدوه واحدا أو أكثر، حتى لا يذهب دمه هدرا، وحتى بوهن العدو ويضعف من شوكته، ويكتب بدمه حرفا من كلمة النصر التي كتبها اللّه للمؤمنين..وقوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ... وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}؟ هو توكيد لما وعد اللّه المؤمنين الذين باعوه أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهذا الوعد حق لا مرية فيه- كما جاء به القرآن والتوراة والإنجيل.فذلك هو وعد اللّه للمؤمنين المجاهدين، فيما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من رب العالمين..{وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}؟ وهل يخلف اللّه وعده، أو ينقض عهده؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا..هذا وليس بيع الأنفس والأموال للّه مرادا به بذلهما في القتال في سبيل اللّه ثم الوقوف بهما عند تلك الغاية وحدها.. فإذا لم يكن بين يدى المؤمن قتال ومجاهدة للعدو، فهناك ميدان فسيح للجهاد في سبيل اللّه في غير ميدان القتال، فمجاهدة النفس والوقوف بها عند حدود اللّه، هو جهاد مبرور في سبيل اللّه..والعبادات بأنواعها، وأداؤها على وجهها جهاد في سبيل اللّه، والسعى في تحصيل الرزق من وجوهه المشروعة، جهاد في سبيل اللّه.. والبر بالفقراء، والإحسان إلى اليتامى.. هو جهاد في سبيل اللّه.وإذا كانت الآية الكريمة قد خصّت القتال في سبيل اللّه بالذكر هنا، فليس ذلك إلا تنويها يفضل الجهاد في ميدان القتال، إذ يمثل الصورة الكاملة التي يبذل فيها المرء كل ما يملك، ويقدم للّه فيها كل ما معه من نفس ومال..على خلاف أبواب الجهاد كلها، فإنه يبذل بعضا من كلّ، ويقدم للّه بعضا ويستبقى بعضا.وقوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.هو مباركة من اللّه سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له- مباركة بهذه الصفقة التي عقدوها مع اللّه، وتبشير لهم بالربح العظيم، والمغنم الجزيل الذي وراءها.. إنها الجنة التي وعدهم اللّه بها وإنها الرضوان من رب العالمين.. وذلك هو الفوز العظيم.. اهـ..قال ابن عاشور: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} استئناف ابتدائي للتنويه بأهل غزوة تبوك وهم جيش العُسْرة، ليكون توطئة وتمهيدًا لذكر التوبة على الذين تخلفوا عن الغزوة وكانوا صادقين في أيمانهم، وإنْبَاءِ الذين أضمروا الكفر نفاقًا بأنهم لا يتوب الله عليهم ولا يستغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمناسبة ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين الذين تسلسل الكلام عليهم ابتداءً من قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] الآيات، وما تولد على ذلك من ذكر مختلف أحوال المخلفين عن الجهاد واعتلالهم وما عقب ذلك من بناء مسجد الضرار.وافتتحت الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر، المتضمنة على أنه لما كان فاتحة التحريض على الجهاد بصيغة الاستفهام الإنكاري وتمثيلهم بحال من يُستنهض لعمل فيتثاقل إلى الأرض في قوله تعالى: {مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] ناسب أن ينزل المؤمنون منزلة المتردد الطالب في كون جزاء الجهاد استحقاق الجنة.وجيء بالمسند جملة فعلية لإفادتها معنى المضي إشارة إلى أن ذلك أمر قد استقر من قبل، كما سيأتي في قوله: {وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن}، وأنهم كالذين نسوه أو تناسوه حين لم يخفُوا إلى النفير الذي استنفروه إشارة إلى أن الوعد بذلك قديم متكرر معروف في الكتب السماوية.والاشتراء: مستعار للوعد بالجزاء عن الجهاد، كما دل عليه قوله: {وعدًا عليه حقًا} بمشابهة الوعدِ الاشتراءَ في أنه إعطاء شيء مقابل بذل من الجانب الآخر.ولما كان شأن الباء أن تدخل على الثمن في صِيغ الاشتراء أدخلت هنا في {بأن لهم الجنة} لمشابهة هذا الوعد الثمنَ.وليس في هذا التركيب تمثيل إذ ليس ثمة هيئة مشبهة وأخرى مشبه بها.والمراد بالمؤمنين في الأظهر أن يكون مؤمني هذه الأمة.وهو المناسب لقوله بعد: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به}.ويكون معنى قوله: {وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل} ما جاء في التوراة والإنجيل من وصف أصحاب الرسول الذي يختِم الرسالة.وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} إلى قوله: {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} إلى قوله: {ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29].ويجوز أن يكون جميع المؤمنين بالرسل عليهم الصلاة والسلام وهو أنسب لقوله: {في التوراة والإنجيل}، وحينئذٍ فالمراد الذين أمروا منهم بالجهاد ومن أمروا بالصبر على اتباع الدين من أتباع دين المسيحية على وجهها الحق فإنهم صبروا على القتل والتعذيب.فإطلاق المقاتلة في سبيل الله على صبرهم على القتل ونحوه مجاز، وبذلك يكون فعل {يقاتلون} مستعملًا في حقيقته ومجازه.واللام في {لهم الجنة} للملك والاستحْقاق.والمجرور مصدر، والتقدير: بتحقيق تملكهم الجنة، وإنما لم يقل بالجنة لأن الثمن لما كان آجلًا كان هذا البيع من جنس السلم.وجملة: {يقاتلون في سبيل الله} مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأن اشتراء الأنفس والأموال لغرابته في الظاهر يثير سؤال من يقول: كيف يبذلون أنفسهم وأموالهم؟ فكان جوابه {يقاتلون في سبيل الله} الخ.قال الطيبي: فقوله: {يقاتلون} بيان، لأن مكان التسليم هو المعركة، لأن هذا البيع سَلَم، ومن ثَم قيل {بأن لهم الجنة} ولم يقل بالجنة.وأتي بالأمر في صورة الخبر ثم ألزم الله البيع من جانبه وضمن إيصال الثمن إليهم بقوله: {وعدًا عليه حقًا}، أي لا إقالة ولا استقالة من حضرة العزة.ثم ما اكتفى بذلك بل عين الصكوك المثبت فيها هذه المبايعة وهي التوراة والإنجيل والقرآن. اهـ.وهو يرمي بهذا إلى أن تكون الآية تتضمن تمثيلًا عكس ما فسرنا به آنفًا.وقوله: {فيَقتُلُون ويُقتلون} تفريع على {يُقاتلون}، لأن حال المقاتل لا تخلو من أحد هذين الأمرين.وقرأ الجمهور {فيَقتلون} بصيغة المبني للفاعل وما بعده بصيغة المبني للمفعول.وقرأ حمزة والكسائي بالعكس.وفي قراءة الجمهور اهتمام بجهادهم بقتل العدو، وفي القراءة الأخرى اهتمام بسبب الشهادة التي هي أدخل في استحقاق الجنة.و{وَعدا} منصوب على المفعولية المطلقة من {اشترى}، لأنه بمعنى وعد إذ العِوض مؤجل.و{حقًا} صفة {وعْدًا}.و{عليه} ظرف لغو متعلق بـ {حقًا}، قُدم على عامله للاهتمام بما دل عليه حرف (على) من معنى الوجوب.وقوله: {في التوراة} حال من {وعدًا}.والظرفية ظرفية الكتاب للمكتوب، أي مكتوبًا في التوارة والإنجيل والقرآن.وجملة: {ومن أوفى بعهده من الله} في موضع الحال من الضمير المجرور في قوله: {وعدًا عليه حقًا}، أي وعدًا حقًا عليه ولا أحد أوفى بعهده منه، فالاستفهام إنكاري بتنزيل السامع منزلة من يجعل هذا الوعد محتملًا للوفاء وعدمه كغالب الوعود فيقال: ومن أوفى بعهده من الله إنكارًا عليه.و{أوفى} اسم تفضيل من وفّى بالعهد إذا فعل ما عاهد على فعله.و{مِن} تفضيلية، وهي للابتداء عند سيبويه، أي للابتداء المجازي.وذُكر اسم الجلالة عوضًا عن ضميره لإحضار المعنى الجامع لصفات الكمال.والعهد: الوعد بحلف والوعد الموكد، والبيعة عهد، والوصية عهد.وتفرع على كون الوعد حقًا على الله، وعلى أن الله أوفى بعهده من كل واعد، أنْ يستبشر المؤمنون ببيعهم هذا، فالخطاب للمؤمنين من هذه الأمة.وأضيف البيع إلى ضميرهم إظهارًا لاغتباطهم به.ووصفه بالموصول وصلته {الذي بايعتم به} تأكيدًا لمعنى {بيعكم}، فهو تأكيد لفظي بلفظ مرادف.وجملة: {وذلك هو الفوز العظيم} تذييل جامع، فإن اسم الإشارة الواقع في أوله جامع لصفات ذلك البيع بعوضيْه.وأكد بضمير الفصل وبالجملة الاسمية والوصف بـ {العظيم} المفيد للأهمية. اهـ.
|